حين
قام الرئيس حسني مبارك بتعديل الدستور عام 2007، عاد إلى السطح الموضوع
الذي طالما أثار جدلا واسعاً وهو وضع الشريعة في القانون المصري. ومن ضمن
أكثر المشاركات في النقاش الذي تلى هذه التعديلات مفاجأة كان ما أدلى به
البابا شنودة الثالث. ففي موقف يتناقض جذرياً
مع مواقفه السابقة التي اتخذها في السبعينات إبان صراعه مع الرئيس السادات
حول أسلمة المجتمع المصري، اتخذ البابا شنودة موقفاً تصالحياً عام 2007
تجاه الاسلاميين. وبالتأكيد فإن البابا قد جازف حين تبرأ من تصريح لأحد
أساقفته والذي دعا فيه إلى إلغاء المادة الثانية من الدستور والتي تنص على
أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع المصري.
إن
المنطق المباشر الذي دفع البابا شنودة لاتخاذ هذا الموقف هو خوفه من أن
الدعوة إلى إلغاء المادة الثانية سيتسبب في عنف ديني. ولكن من المثير في
سياق النقاش على المسودة الحالية للدستور أن نورد هنا أن البابا شنودة أصر
في المقابل على أنه في حالة النص على دور الشريعة في مسودة الدستور، فإنه
يجب إعطاء الأقباط أولوية لقانونهم الخاص فيما يخص الأحوال الشخصية في
المجتمع المسيحي في المسودة. لقد شكلت تصريحات البابا شنودة التي أطلقها
حول هذا الموضوع عام 2007 أساساً للمديح الذي أسبغه الشيخ يوسف القرضاوي
على البابا بعد وفاته، والذي قال فيه إن البابا كان يحمل إحتراماً كبيراً
للشريعة.
وبالطبع، وكما يعرف كل من قرأ نص مسودة الدستور التي يصوت المصريون عليها بداية من الخامس عشر من ديسمبر الجاري،
فإن المخاوف التي عبر عنها البابا شنودة في 2007 فيما يخص الاعتراف بقانون
الأحوال الشخصية القبطي قد تم النص عليها في هذه المسودة. فبعد المادة
الثانية من مسودة الدستور التي تنص على أن الشريعة الاسلامية هي المصدر
الرئيس للتشريع المصري، تأتي المادة الثالثة غير المسبوقة والتي تنص على
أن: "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات
المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية."
وقد
وصفت المادة الثالثة بشكل واسع من قبل اللجنة التأسيسية ومؤيدي الدستور
الجديد بأنها "تنازل" لمراعاة حساسيات المجتمع القبطي. أما المنتقدون لهذه
المادة فقد ركزوا على فشل الوثيقة في الاعتراف بالمجتمعات غير المسلمة، أو
المسيحية، أو اليهودية، أو بأولئك الذين لا يعتنقون أي ديانة.
ومع
ذلك، فإن ما غفلت عنه تلك النقاشات حول المادتين الثانية والثالثة هو
التأثيرات التي ستتركها هذه المواد على الديناميكيات الداخلية في المجتمع
القبطي. وحتى لا نخطئ في فهم التأثيرات المتوقعة، فإننا نقول إن قرار
اللجنة التأسيسية بإدراج المادة الثالثة في مسودة الدستور سيكون له بكل
تأكيد تأثيرات بالغة على توازن القوى الداخلي في المجتمع القبطي والتطور
السياسي فيه. وحتى نبين كيف ستؤثر هذه المواد على الأقباط، فإنه من المفيد
أن نرجع إلى تصريح البابا شنودة عام 2007. فلماذا غير البابا، الذي دعا
جاهداً في السبعينات لمساواة كل المصريين أمام القانون، موقفه وتبنى المادة
الثانية عام 2007؟
إعتقادي
الشخصي أننا يمكن أن نفهم هذا التغيير في موقف شنودة إذا درسنا مقاربته
لكيفية قيادة الكنيسة بعد عودته من الاقامة الاجبارية عام 1985. فبعد أن
أمضى أربعين شهراً بين عامي 1981 و1985 منفياً في دير النطرون في أقصى بقاع
مصر، إختار شنودة أن ينبذ دعوته التي انخرط فيها في السبعينات لصالح أسلوب
إدارة كنسي بدأه سلفه البابا كيرلس السادس. وهذا الأسلوب يقضي بالتعاون مع
الدولة المصرية على افتراض أن الدولة تعترف بالبابا القبطي زعيماً شرعياً
للمجتمع القبطي في الأمور الروحية والدنيوية.
هذه
المقاربة أثبتت فائدتها لكل من البابا كيرلس السادس والرئيس جمال عبد
الناصر، حيث إنها سمحت لهما أن يقاوما عدواً مشتركاً، وهو النخبة القبطية.
وفيما يخص هذا الجزء، فإن البابا قد ارتاح من التعامل مع التدخل المستمر من
قبل العلمانيين الأقباط في شئون الكنيسة. أما بالنسبة للرئيس عبد الناصر،
فإن تهميش ملاك الأراضي، والمحامين، والليبراليين من أبناء النخبة القبطية
انسجم تماماً مع جهوده لتخليص المجتمع المصري من بقايا عصر النظام
البرلماني، وأعانه على القيام بإعادة توزيع ثروة البلد.
أما
بالنسبة للبابا شنودة عام 1985، فإن ما جذبه لهذه السياسة كان واضحا بنفس
القدر. فقد تمكن من بناء وتوسيع شبكة علاقات اجتماعية وثقافية، ومؤسسات
تعليمية ضمن إطار الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، مما وضع الكنيسة في مركز
المرجعية في الحياة اليومية للأقباط. في هذه المعادلة، تقوم الدولة بدرء
خطر الاسلاميين وضمان سلطة البابا شنودة داخل الكنيسة والمجتمع طالما بقي
ولاء البابا للنظام ثابتاً لا يتغير. وكما هو معروف، رغم أنه لا تتم
مناقشته كثيراً هذه الأيام، فإن الولاء بقي بالفعل ثابتاً لا يتغير خلال
ثورة 25 يناير، حيث أعلن شنودة تأييده لمبارك على شاشة التلفزيون أثناء
الثورة التي استمرت ثمانية عشر يوماً.
وفي
هذا السياق السياسي، يمكننا فهم منطق التعليقات التي أدلى بها شنودة في
2007.إن إعترافه بالشريعة ودعوته للاعتراف بقانون الأحوال الشخصية القبطي
كان ببساطة تأكيداً على وضع الكنيسة كمؤسسة محورية في حياة الأقباط
اليومية، وكممثل شرعي وحيد للمجتمع القبطي. وبقدر ما سمحت به معادلة السلطة
في مقابل الأحوال الشخصية من تعريف للسلطة في المجتمع القبطي، فقد كان هو
مصمماً على الاحتفاظ بتلك السلطة في يديه نيابة عن الكنيسة.
والآن
وقد اقترحت اللجنة التأسيسية أن تخول السلطة على الأحوال الشخصية في
الكنيسة بطريقة رسمية ودستورية، وبمعنى آخر أن تقنن انتصار رجال الدين على
منافسيهم من العلمانيين الأقباط في محاولة السيطرة على الكنيسة والمجتمع،
فإنه لا يمكننا إلا أن نتساءل عن الدور الذي يمكن للأقباط العاديين أن
يلعبوه في السياسات الخاصة بالأحوال الشخصية والأمور الوطنية. وفي مواجهة
تصميم الكنيسة على تهميشهم وتأييد الدولة لهذا التهميش، فهل سيتم اتهام
الأقباط العاديين الذين يريدون أن يكون لهم صوت مسموع في مستقبل مجتمعهم
ووطنهم بأنهم مارقون ومخربون؟